فصل: المسألة الثالثة: (التعوذ قبل القراءة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: (حكم الاستعاذة):

قال عطاء: الاستعاذة واجبة لكل قراءة، سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، وقال ابن سيرين: إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون: إنها غير واجبة.
حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول: إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها.
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه: الأول: أنه عليه السلام واظب عليه، فيكون واجبًا لقوله تعالى: {واتبعوه}.
الثاني: أن قوله تعالى: {فاستعذ} أمر، وهو للوجوب، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات، لأنه تعالى قال: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله}
وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل، والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة.
الثالث: أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم، لأن قوله: {فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] مشعر بذلك، ودفع شر الشيطان واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة.
الرابع: أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة، فهذا ما لخصناه في هذه المسألة.
التعوذ في الصلاة:

.المسألة الثالثة: (التعوذ قبل القراءة):

التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين، وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان، لنا الآية التي تلوناها، والخبر الذي رويناه، وكلاهما يفيد الوجوب، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب.

.المسألة الرابعة: (هل يسر بالتعوذ أو يجهر)؟

قال الشافعي رضي الله عنه في (الأم): روي أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ وعن أبي هريرة أنه جهر به، ثم قال: فإن جهر به جاز، وإن أسر به أيضًا جاز وقال في (الإملاء): ويجهر بالتعوذ، فإن أسر لم يضر، بين أن الجهر عنده أولى، وأقول: الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة، فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار، وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر، إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم، لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء، ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية، والأصل هو العدم.

.المسألة الخامسة: (هل يتعوذ في كل ركعة)؟

قال الشافعي رضي الله عنه في (الأم): قيل إنه يتعوذ في كل ركعة، ثم قال: والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى، وأقول: له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم، وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} (النحل: 98) وكلمة إذا لا تفيد العموم، ولقائل أن يقول: قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية، فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة، والله أعلم.

.المسألة السادسة: (صيغ الاستعاذة)؟

أنه تعالى قال في سورة النحل: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وقال في سورة أخرى: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الدخان: 6] وفي سورة ثالثة: {إِنَّهُ سَمِيع عَلِيم} [الأعراف: 200] فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي: واجب أن يقول، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة، قالوا: لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى: {فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وموافق أيضًا لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم، وقال أحمد: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعًا بين الآيتين، وقال بعض أصحابنا، الأولى أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لأن هذا أيضًا جمع بين الآيتين، وروى البيهقي في (كتاب السنن) بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثلاثًا وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال: قل يا محمد: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1].
وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعًا من الاستغراق في الله، والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال الله والله الهادي.

.المسألة السابعة: (هل التعوذ للقراءة أو للصلاة)؟

التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة؟ عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة، وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة، ويتفرع على هذا الأصل فرعان: الفرع الأول: أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا؟ عندهما لا يتعوذ، لأنه لا يقرأ، وعنده يتعوذ، وجه قولهما قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] علق الاستعاذة على القراءة، ولا قراءة على المقتدي، فلا يتعوذ، ووجه قول أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة، ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة، الفرع الثاني: إذا افتتح صلاة العيد فقال: سبحانك اللهم وبحمدك هل يقول: أعوذ بالله ثم يكبر أم لا؟ عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات.
وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها هاهنا:

.المسألة الثامنة: (السنة في القراءة):

السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل، لقوله تعالى: {وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ، وأفهم غيره تلك المعاني، وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم، فكان الترتيل أولى، فقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا» قال أبو سليمان الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة، يقال للقارئ: اقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن، فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة.

.المسألة التاسعة: (في إجادة القراءة لمن يقرأ القرآن جهرا):

إذا قرأ القرآن جهرًا فالسنة أن يجيد في القراءة، روى أبو داود عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم»

.المسألة العاشرة: (هل اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة)؟

المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة، ويدل على أن المشابهة حاصلة بينهما جدًا والتمييز عسر، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق، بيان المشابهة من وجوه: الأول: أنهما من الحروف المجهورة، والثاني: أنهما من الحروف الرخوة، والثالث: أنهما من الحروف المطبقة، والرابع: أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها وبهذا السبب يقرب مخرجه من مخرج الظاء، والخامس: أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أفصح من نطق بالضاد» فثبت بما ذكرنا أن المشابهة بين الضاد والظاء شديدة وأن التمييز عسر، وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان هذا الفرق معتبرًا لوقع السؤال عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أزمنة الصحابة، لاسيما عند دخول العجم في الإسلام، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذه المسألة ألبتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف.

.المسألة الحادية عشرة: (هل اللام المغلظة من اللغات الفصيحة أم لا)؟

اختلفوا في أن اللام المغلظة هل هي من اللغات الفصيحة أم لا؟ وبتقدير أن يثبت كونها من اللغات الفصيحة لكنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تغليظها حال كونها مكسورة لأن الانتقال من الكسرة إلى التلفظ باللام المغلظة ثقيل على اللسان، فوجب نفيه عن هذه اللغة.

.المسألة الثانية عشرة: (الصلاة بالقراءة الشاذة):

اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة مثل قولهم (الحمدِ لله) بكسر الدال من الحمد أو بضم اللام من لله، لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقًا، لأنها لو كانت من القرآن لوجب بلوغها في الشهرة إلى حد التواتر، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها ليست من القرآن، إلا أنا عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.

.المسألة الثالثة عشرة: (القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر):

اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال: وذلك لأنا نقول: هذه القراءات المشهورة إما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون، فإن كان الأول فحينئذٍ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعًا على خلاف الحكم الثابت بالتواتر، فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير، لكنا نرى أن كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة، ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه، وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذٍ يخرج القرآن عن كونه مفيدًا للجزم والقطع واليقين، وذلك باطل بالإجماع، ولقائل أن يجيب عنه فيقول: بعضها متواتر، ولا خلاف بين الأمة فيه، وتجويز القراءة بكل واحد منها، وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعيًا، والله أعلم.

.الباب الثاني: في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم):

اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة: الاستعاذة، والمستعيذ، والمستعاذ به، والمستعاذ منه، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة.

.الركن الأول: في الاستعاذة:

وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: (تفسير الاستعاذة):

في تفسير قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بحسب اللغة فنقول: قوله: (أعوذ) مشتق من العوذ، وله معنيان: أحدهما: الالتجاء والاستجارة، والثاني: الالتصاق يقال: (أطيب اللحم عوذه) وهو ما التصق منه بالعظم، فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي: ألتجئ إلى رحمة الله تعالى وعصمته، وعلى الوجه الثاني معناه التصق نفسي بفضل الله وبرحمته.
وأما الشيطان ففيه قولان: الأول: أنه مشتق من الشطن، وهو البعد، يقال: شطن دارك أي بعد، فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطانًا لبعده من الرشاد والسداد، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] فجعل من الإنس شياطين، وركب عمر برذونًا فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان.
والقول الثاني: أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلًا لوجوه مصالح نفسه سمي شيطانًا.
وأما الرجيم فمعناه المرجوم، فهو فعيل بمعنى مفعول.
كقولهم: كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين، أي ملعون، ثم في كونه مرجومًا وجهان: الأول: أن كونه مرجومًا كونه ملعونًا من قبل الله تعالى، قال الله تعالى: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيم} [الحجر: 34] واللعن يسمى رجمًا، وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] قيل عنى به الرجم بالقول، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} [الشعراء: 116] وفي سورة ياس: {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم} [يس: 18] والوجه الثاني: أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجومًا لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طردًا لهم من السموات، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد.
وأما قوله: {إِنَّ الله هُوَ السميع العليم} ففيه وجهان:
الأول: أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع، ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار.
الثاني: أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن، وهو قوله تعالى: {وإَمَّا ينزغنك مِنَ الشيطان نَزْغ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيع عَلِيم} [الأعراف: 200] وقال في حم السجدة: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [فصلت: 36].